أحوال الشمس والقمر الدالة على توحيد الله وكمال قدرته
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(5)إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ(6)}
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} الآية للتنبيه على دلائل القدرة والوحدانية أي هو تعالى بقدرته جعل الشمس مضيئة ساطعة بالنهار كالسراج الوهّاج {وَالْقَمَرَ نُورًا} أي وجعل القمر منيراً بالليل وهذا من كمال رحمته بالعباد، ولما كانت الشمس أعظم جرماً خُصَّت بالضياء، لأنه هو الذي له سطوعٌ ولمَعان، قال الطبري: المعنى أضاء الشمس وأنار القمر {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي قدَّر سيره في منازل وهي البروج {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أي لتعلموا أيها الناس حساب الأوقات، فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تُعرف الشهور والأعوام {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ} أي ما خلق تعالى ذلك عبثاً بل لحكمة عظيمة، وفائدة جليلة {يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} أي يبيّن الآيات الكونيّة ويوضحها لقوم يعلمون قدرة الله، ويتدبرون حكمته، قال أبو السعود: أي يعلمون الحكمة في إِبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها جل وعلا.
{إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي في تعاقبهما يأتي الليل فيذهب النهار، ويأتي النهار فيذهب الليل {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي وما أوجد فيهما من أصناف المصنوعات {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} أي لآيات عظيمة وبراهين جليلة، على وجود الصانع ووحدانيته، وكمال علمه وقدرته، لقومٍ يتقون الله ويخافون عذابه.
أحوال المؤمنين والكافرين يوم القيامة
{إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(7)أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(
إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(9)دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(10)}
{إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا} أي لا يتوقعون لقاء الله أصلاً ولا يخطر ببالهم، فقد أعمتهم الشهوات عن التصديق بما بعد الممات {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي رضوا بالدنيا عوضاً من الآخرة، وآثروا الخسيس على النفيس {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} أي فرحوا بها وسكنوا إِليها {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} أي وهم عن الأدلة المنبثّة في صحائف الأكوان غافلون، لا يعتبرون فيها ولا يتفكرون.
{أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ} أي مثواهم ومقامهم النار {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي بسبب كفرهم وإِجرامهم، وبعد أن ذكر الله حال الأشقياء أردفه بذكر حال السعداء فقال {إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي يهديهم إِلى طريق الجنة بسبب إِيمانهم {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي تجري من تحت قصورهم الأنهار أو من تحت أسرَّتهم وهم مقيمون في جنات النعيم {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} أي دعاؤهم في الجنة سبحانك اللهم وفي الحديث (يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمون النَّفس) أي كلامهم في الجنة تسبيح الله {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} أي وتحية بعضهم بعضاً سلامٌ عليكم كما تحيِّيهم بذلك الملائكة {والملائكةُ يدخلون عليهم من كل باب سلامٌ عليكم} {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله ربّ العالمين.
رحمة الله لعباده والتجاؤهم إليه في الشدائد وإعراضهم عنه في الرخاء
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(11)وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(12)}
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} قال مجاهد: هو دعاء الرجل على نفسه أو ولده إِذا غضب، اللهم أهلكْه، اللهم لا تبارك فيه، قال الطبري: المعنى لو يعجل الله إِجابة دعاء الناس في الشر وفيما عليهم فيه مضرَّة، كاستعجاله لهم في الخير بالإِجابة إِذا دعوه به {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي لهلكوا وعُجِّل لهم الموت {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا} أي فنترك المكذبين بلقائنا الذين لا يؤمنون بالبعث {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي في تمردهم وعتوهم يتردَّدون تحيراً والمعنى: نترك المجرمين ونمهلهم ونفيض عليهم النعم مع طغيانهم لتلزمهم الحجة .
{وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ} أي وإِذا أصاب الإِنسان الضرُّ من مرضٍ أو فقر أو نحو ذلك {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} أي دعانا في جميع الحالات: مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً لكشف ذلك الضُر عنه {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} أي فلما أزلنا ما به من ضرّ استمرَّ على عصيانه، ونسي ما كان فيه من الجَهْد والبلاء أو تناساه، وهو عتابٌ لمن يدعو الله عند الضر، ويغفل عنه عند العافية {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي كما زُيّن لذلك الإِنسان الدعاء عند الضرِّ والإِعراضُ عند الرخاءِ، كذلك زُيّن للمسرفين المتجاوزين الحد في الإِجرام، ما كانوا يعملون من الإِعراض عن الذكر، ومتابعة الشهوات.
الإهلاك والاستخلاف متعلقان بالأعمال
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ(13)ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(14)}
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} أي ولقد أهلكنا الأمم من قبلكم أيها المشركون لما كفروا وأشركوا وتمادَوا في الغيِّ والضلال {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي جاءوهم بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقهم {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} أي وما ءامنوا بما جاءتهم به الرسل، أي أنهم ظلموا وما ءامنوا فكان سبب إِهلاكهم شيئان: ظلمهم، وعدم إِيمانهم {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أي مثل ذلك الجزاء -يعني الإِهلاك- نجزي كل مجرم، وهو وعيدٌ لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي ثم استخلفناكم في الأرض يا أهل مكة من بعد إِهلاك أولئك القرون، التي تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أي لننظر أتعملون خيراً أم شراً فنجازيكم على حسب عملكم، قال القرطبي: والمعنى: يعاملكم معاملة المختبر إِظهاراً للعدل، وقال ابن جزي: معناه ليظهر في الوجود عملكم فتقوم عليكم به الحجة، والغرض أن الله تعالى عالمٌ بأعمالهم من قبل ذلك ولكن يختبرهم ليتبيَّن في الوجود ما علمه تعالى أزلاً.
التشكيك بالقرآن عن طريق المطالبة بالإتيان بغيره أو تبديله
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15)قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(16)فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ(17)}
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإِذا قرئت على المشركين آيات القرءان المبين، حال كونها واضحات لا لَبْس فيها ولا إِشكال {قَالَ الَّذِينَ لايَرْجُونَ لِقَاءَنَا} أي قال الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب،ولا يرجون الأجر والثواب {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} أي ائت يا محمد بكتابٍ آخر غير هذا القرءان، ليس فيه ما نكرهه من عيب آلهتنا، وتسفيه أحلامنا، {أَوْ بَدِّلْهُ} بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، ومكان سب آلهتنا مدحهم، ومكان الحرام حلالا، وإِنما قالوه على سبيل الاستهزاء والسخرية، قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا: يا محمد ائتنا بقرآن غير هذا فيه ما نسألك .
{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} أي قل لهم يا محمد ما ينبغي ولا يصح لي أن أغيّر أو أبدّل شيئاً من قبل نفسي {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي لا أتّبع إِلا ما يوحيه إِليَّ ربي، فأنا عبد مأمور ورسول مبلِّغ، أبلغكم رسالة الله {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إِني أخشى إِن خالفت أمره، وبدَّلتُ وحيه، عذاب يومٍ شديد الهَوْل هو يوم القيامة، وهذا كالتعليل لما سبق {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} أي قل لهم يا محمد لو شاء الله ما تلوتُ هذا القرءان عليكم، وما تلوته إِلا بمشيئته تعالى، لأنه من عنده وما هو من عندي {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي ولا أَعلَمكم به على لساني {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} أي فقد مكثتُ بين أظهركم زمناً طويلاً، مدة أربعين سنة من قبل القرءان لا أعلمه أنا ولا أتلوه عليكم {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر لتعلموا أنَّ مثل هذا الكتاب المعجز ليس إِلا من عند الله؟ قال الإِمام الفخر الرازي: إِن الكفار شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول عمره إِلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله، وأنه ما طالع كتاباً، ولا تتلمذ لأستاذ، ولا تعلَّم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة جاءهم بهذا الكتاب العظيم، المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين، وعجز عن معارضته العلماء، والفصحاء، والبلغاء، وكلُّ من له عقل سليم يعلم أن مثل هذا لا يكون إِلا على سبيل الوحي والتنزيل.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} استفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن اختلق على الله الكذب والمقصود منه نفي الكذب عن مقامه الشريف صلى الله عليه وسلم حيث زعم المشركون أن هذا القرءان من صنع محمد {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أي كذّب بالحق الذي جاءت به الرسل {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} أي لا يفوز بالسعادة من ارتكب الإِجرام وكذّب الرسل الكرام.